-
القتلة "بال" التعريف وحياة مغدورة مغفلة الأسماء بين الطفلين آلان الكردي وعبدو حنيفي
ساوت بعض الثقافات الشعبية، أقلّه نظرياً، بين قلوب الأطفال وقلوب الأنبياء. فمن الأقوال المأثورة "من فرّح صبياً فّرح نبياً". كما يُعد الأطفال "أحباب الله".. وأحد أكثر أشكال العزاء مواساة حين يموت الأطفال بشكل طبيعي، باعتبارهم طيور الجنة الذين يشفعون للآباء والأمهات في لحظة الحساب والجزاء، في حين تم تأويل كينونات الفراشات البديعة بوصفها لفرط جمالها أرواح أطفال اصطفاهم القدير لجواره، وأعاد خلق بهجتهم العذبة في حياة كائنات رقيقة ملونة ومسالمة.
ولعل ما يغاير الطفل البشري عن سواه من أطفال المخلوقات الأخرى فترة الحضانة والتأهيل. فطفولة الكائن الإنساني حتى في بداياته بعيدة الجذور (حينما كان لا يتمايز عن غيره من مخلوقات الغابة ) تستدعي سنوات طوال حتى يشتد عوده، ويدخل في دائرة الكبار والراشدين. ومع ذلك كل طفل يختزل في سيرورة نموه طفولة جنسه برمته. فما استغرق ما لا يُحصى من الألفيات في سلم تطوره اللغوي والعقلي والمعرفي، يتجلى في أطوار نمو الطفل. من هنا يعتبر كل طفل معجزة قائمة بحد ذاتها، مع ما تنطوي عليه الطفولة من خصال البراءة والدهشة والمخيلة الحرة ونقاء الروح وصفائها، وما يمكن أن تُصار عليه في مآلات مبدعة.
ولعلّ من أكثر الإنجازات قيمة في سياق تطور الفكر الغربي، يتبدى ضمن ما يتبدى في بلورة مواثيق تنص على حقوق الطفل، على المستوى النظري والعملي معاً. الأطفال هناك على الضفة الأخرى يعتبرون "أنبياء البهجة"، مخلوقات تحظى بالرعاية والحب والحنان والاهتمام والحقوق.
ولعله أيضاً يمكن إدانة العقل الغربي من ضمن ما يمكن إدانته في تعاطيه مع العوالم الأخرى (ذاك العقل المتجسد في مركزيته حول نفسه وتهميش ما عداه)، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الفكر الغربي، وبالتالي الغرب، ليس كتلة واحدة صماء متجانسة، داخل الغرب، أكثر من غرب أو حتى غرب لا نهائي في تعدده. ما نقصده هنا هو الغرب المتمثل في بعده السياسي المهيمن والفاعل في رسم خرائط العالم وإعادة رسمها من منظور مصالحه الإمبريالية، خصوصاً حينما يتم بتجاهل صفيق كل المآسي والعذابات والفجائع التي تطال الحياة الغضة، من قتل جماعي وتهجير وإعاقات نفسية وجسدية، ولو كان الأمر مقتصراً على مجرد التجاهل، كان من الممكن أن يصفح المرء ويغفر بشكل من الأشكال، غير أن المصيبة العظمى تكمن في التواطؤ حتى لا نقول المشاركة في الإجرام بحق "أحباب الله" أو "أنبياء البهجة".
بين مأساة الطفل آلان الكردي ومأساة الطفل عبدو مصطفى حنيفي، ليس أكثر من سبع سنوات. سبع سنوات بمقدور المرء بسهولة رسم إشارة الرقم سبعة على يديه ويدعمها بلقطة سنوات، غير أنه في اليوم الواحد في هذا السفر الجحيمي نرى كم روحاً بريئة زهقت أو لاقت حتفها، قصفاً أو غرقاً أو أتلفت روحها بإعاقات مُزمنة.
بين الطفل آلان الكردي بسنواته الثلاث الذي مات غرقاً في (2 أيلول عام 2015 ) مع والدته وأخيه في عرض البحر، والذي دُفن جسده الملائكي في تراب مدينة كوباني، والطفل عبدو حنيفي بسنواته الأربع، والذي بُترت ساقه (في 8 كانون الثاني عام 2022)، ساقه التي بالكاد أتقنت فن الركض والمشي واللعب بمنزله في مدينة كوباني، بسبب مصدر فخر واعتزاز الصناعة التركية (الطائرات المُسيرة بدون طيار)، الصناعة المتباهية التي حكمت على الطفل عبدو بالحرمان الأبدي. بينهما ما تعجز اللغة عن وصفه، بالرغم من كل بلاغتها وفصاحتها وبيانها وسحرها وقدرتها على سبر أعمق خبايا الطبيعة البشرية وما تكتنزه هذه الطبيعة من إرث موغل في الشرور والآثام والفظائع بالتزامن مع إرث من الجمال والحكمة والفن، فتغدو (اللغة) قاصرة وعاجزة ومشلولة وخرساء حيال دموع آلان وهلعه المبتلع بأمواج البحر الغادر والسياسات الظالمة، والذي لم يصل لعمر يؤهله لفك طلاسمها المُستبدة.
كسيحة تقف اللغة بكامل رشاقتها قبالة الدموع السخية على وجنتي الطفل عبدو وأوجاعه وفزعه من فقدان ساقه، فتختار اللغة الصمت، تختار أن تنفي كينونتها وتذيبها بفراغ الصمت، لكن هذا الأخير يصير مثل كائن يباشر دون معرفة علاج الوخز بالإبر الصينية على جسد رضيع، بينما نحتار نحن في الاختيار بين اللغة أو الصمت أو التعاقب بينهما، حينما لا يمكن لأيّ منهما أنّ يمنحنا بعض السلام من قبح الأزمنة المثخنة بالتوحش المنفلت من عقاله.
بين هذين الطفلين ما لا يُحصى ولا يعدّ من الأطفال من حيث الكم، مع أن كل طفل على حدة يشكل احتجاجاً ورفضاً وإدانة، لكل اللغط والرطانة والزعيق والهتاف بزيف شعارات الديمقراطيات الغربية والأيديولوجيات الشرقية، سواء المستوردة من الغرب، أو تلك الهجينة أو النابعة من رحم هذه الأوطان القاتلة.
بين الطفلين تتعدد الجرائم والمجازر الشنيعة تعدداً لا نهائياً مدوياً ومدوخاً، بينما القتلة لا يتغيرون. فهل يشفي الغليل ويبعث العزاء في النفوس أن يُعرف المعرف ويسمى المسمى ويكشف المكشوف؟ القتلة يقتلون بدم بارد وبسادية متفاقمة. القتلة لم يعودوا مجهولي الملامح أيها السادة، غير أن المغدورين يصبحون أرقاماً في كتب الإحصاء الصفراء أو قبوراً منسية وضائعة في هذه الأرض الثكلى والضالة.
ليفانت عماد أيو
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!